بين الزواج المبكر .. والتبكير في الزواج ... أسر "مهددة" وأخرى "مدمرة"!
 تحقيق/ فداء محمد عبد الجواد
الزواج المبكر .. والتبكير في الزواج، هما مصطلحان دارجان في مجتمعنا الفلسطيني، كلاً منهم يُدمر ويُهلك عائلات عديدة، وينهي مستقبل النفوس. لكن ما هو نتاج هذين المصطلحين اللذين لا يعلم الأهالي مدي خطورته؟؟؟"ثقافة عائلية" كلمتان بسيطتان، ولكن بذاتها تحملان معانٍ كثيرة، أطلقتها السيدة (م.ع) وهي ترتجفُ خوفاً، ويغمر جبينها تجاعيدُ الأسى، وعيونها مغرورقة بالدموع، ووجنتيها تلونتا خجلاً قائلة: "دمرتني عائلتي، دمرتني ثقافتهم، ودمرني جبروتهم، عذبني صراخهم ومشاكلهم دائمة باستمرار، وعاداتهم بتزويج فتيات العائلة مبكراً، أضاعوا حُلمي بالتعليم وحرموني طفولتي وألعابي، وزوجوني بعمر الرابعة عشر، وحمّلوني مسؤولة عائلة".إنها ليست قصة درامية بل واقعية تعكس تداعيات الزواج المبكر الذي غالباً ما يؤدي حصاداً سلبياً ينتهي أحياناً بالطلاق.. فماذا حدث لتلك السيدة بعد زواجها مبكراً رغماً عنها دون رغبة منها؟؟
 تنهدت تنهيدة مليئة بالآلام مكملة حديثها:"زوجي ليس له أي سلطة يمارسها عليّ، إنما مشكلتي قائمة على حماي (والد زوجها)، فهو يضربني يومياً على أي شيء حتى لو كسرتُ صحناً، وكُل هذا بسبب معيشتنا في بيتِهم، فزوجي يعمل مع والده في محله، والمأكل والمشرب عندهم وغرفتنا في بيتهم، وكلما اشتكيت له يقول لي: "شو بدنا نعمل حالنا مثل حال الكل"، على حدِ قولها.
المعاناة تشتد أكثر، وكلما اقتربت لقلبها يزدادُ الأنين وتقول: "زيارتي لأهلي بمواعيد وتُحدد بالساعة والمدة وفي كل شهر مرة واحدة، وحاولتُ مراراً وتكراراً البقاء عند أهلي، ولكن طبيعتهم التي عشتها معهم تمنعني من الشكوى، وما يزيدُ الطين بلة أن والدي يُعيدني إلي زوجي ويقول لي: "ما عنا بنات تِتطلق".
وكلما أخرجت حرفٌ من حروفِ معاناتها، تبقي صامتة لدقيقةِ لتضيفُ في ظلِ قهرها: "أصبحت امرأة كئيبة، عصبية جداً على أطفالي، وزوجي صورته باهتة، ويكرر لي دائماً: "لو حكيت ليطردونا ومش حنلاقي مكان نعيش فيه".
وقالت: "زواجي مضي عليه ست سنوات وما زلتُ أعاني، وأتمنى طلاقي بأسرع وقت ممكن، فحياتي جحيم".
وتمتد مشكلة الزواج المبكر لتطال ليس الزوجة فقط، بل العائلة أسرها وأطفالها، مما يفاقم المشكلة ويجعل عش الزوجية الهادئ أشبه بـ "عُش الدبابير".
قصة أخرى تجسد المشكلة ذاتها تحدثنا عنها السيدة (ن .ص) لبتي بدأت تروي معاناتها مع والدة زوجها، قائلة: "اكتشفت بعد زواجي وكأني متزوجة من حماتي، بل ليس منها فقط إنما أخوات زوجي أيضاً، جميعهن يدخلن عليّ بغرفتي دون استئذان، بما اعتبره اعتداء على حرمة جسدي عندما أكون نصف عارية، مع تعرضي للضرب من حماتي في كثيرٍ من الأحيان، حتى زوجي يضربني ويؤنبني كلما شكيتُ دخولهن عنوة وأنا شبه عارية، ويقول: "يجب أن تطيعي أمي، فطاعتها من طاعتي".
وتكمل: "ويربطُ الفعل المشين بطاعة "والدين"، وإرضائي لهم من إرضائي لله، وبعد عدة مشاكل لم أحتمل هذا كله، وتوجهت لأهلي وشكوت لهم ما يحدث معي، وأصبحتُ في حالة انهيار واكتئاب وغياب للوعي، كُل هذا سببه تبكيري في الزواج دون وعي من ناحية أهلي وناحيتي".
صراع بين جيلين ..!
تحول الزواج المبكر إلى آفة حسب الذين اكتووا بنيرانه، فهي عقاب للابن والابنة بالتبكير في زواجهما من قبل الأهالي، وكأن الجيل القديم ببساطة يُعاود ترسيخه في الجيل الجديد.
وتقول الأخصائية النفسية زهية القرا من برنامج غزة للصحة النفسية: "الزواج سنُة حياتنا ولا ننكرها، ولكن الاختلاف هو زواج القاصرات اللواتي يضيعُ حقوقهن في التعليم والطفولة الجميلة، لتصبحُ زوجة قاصرة مسئولة عن عائلة في ولاية اجتماعية، مأساتها عادات وتقاليد تُفشل من حالة نجاح الزواج إن وجد (1%) لنجاحه، وتعاني الفتاة بالشكل العام من الاكتئاب الدائم والتوتر والخلافات والمشاجرات بينها وبين الحماة أو أحد أفراد أسرة زوجها".
وأوضحت الأخصائية القرا: "إن زواج القاصر عندما يبدأ بمشكلات، "يبدأ معه انهيار سقف عائلتين لعدم وعيهما ومعرفتهما بما يجري حولهما، وتصل إلي الطلاق وعادةً أغلب الحالات تفشل وتنتهي بالطلاق".
وتؤكد أن الفتاة عندما تُطلق تُصاب بصراع نفسي شديد بسبب فشلها، ويقع على كاهلها كامل المسؤولية، وأنها صارت الآن "وصمة عار" على أهلها، فيمارس الأهل ضغوطات نفسية مشددة، منها عدم خروجها من البيت ومنعها من ممارسة حقوقها، هذا مما يزيد "تفاقم أزمة الثقة بالنفس لديها واستعدادها للحياة من جديد".
إعانتها بدلاُ من تأنيبها..!
وبدورها كأخصائية يتجه إليها معظم الحالات توضح أن الفتاة المطلقة بمفهوم المجتمع تصبح عالة عليه، وأنها فقدت فرصتها بالحياة في المرة الأولي وفشلت، فستفشل مرة أخرى أيضاً. وقالت: " نحاول إعادة الاتزان النفسي لهذه الفتاة وإدماجها بالمجتمع، ونحاول مع الأهالي بتوعيتهم لتخفيف الضغوطات عليها في المرحلة الأولي من الطلاق، "حتى لا يعقبه مصائب أخرى"، على حد تعبيرها.
وتضيف: "يجب على الأهل مساندة ابنتهم في هذه الحالة بإخراجها، والتخفيف عنها من الأعراض الاكتئابية وإعادة نظرتها الايجابية للحياة، وتقوية قدراتها وتعليمها مِهن تناسبها".
واعتبرت أن "زواج الأطفال" كما أسمته نوع من الإجبار أو الاستغلال إما من ذات الفتاة، وإما من الأهل، فالفتاة تكون في سن عدم القدرة على اتخاذ القرارات، فعلى الفتاة أن تعي جيداً هذه الناحية، ولو كانت التوعية في المدارس من خلال الصحة والإرشاد لهذا النوع من الاستغلال، لاستطاعت أن تتخذ قرارات دون الأهل".
وتمضي الأخصائية في حديثها قائلة: "استعداد الفتاة لزواج ثانٍ يأخذ مدي أطول، بسبب الخوف المتربع في عقلها وقلبها من فشلها لمرة أخرى، فدورنا تخفيف وطأة العذاب الأول وإرشادها بأنها كانت فتاة صغيرة، لا تحتمل أعباء الزواج وهو خطأ من الأهل، والآن هي كاملة النضوج لتحمل مسؤولية كاملة للزواج وانغماسها في المجتمع كزوجة ناجحة بإذن الله".
زواج طفولي..!
لكن ما نتاج هذا الزواج بصورة أكثر عملية؟؟.. المحامي سمير حسنية من المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان-وحدة المرأة، قال: "لدينا عشرات القضايا السنوية وطلبات الطلاق والتي تعدت حدود ال1400 قضية طلاق لعام 2011م. وهذا بما يسبب دماراً للمجتمع الفلسطيني بارتفاع نسبة الطلاق، ويؤثر سلباً على البيئة المحيطة، ونقوم حالياً بتوعية قانونية بقانون الأحوال الشخصية".
وأشار المحامي حسنية إلى وجود قرار إداري نص على منع تزويج الفتاة أقل من سن 15 عاماً والفتى من سن ال16 عام، وأنه لا يجوز مخالفة القانون، والمصلحة تقتضي بتنفيذ القرار.
وقال: "اعتبر تزويج الفتاة في سن مبكرة بمثابة تحطيم لذاتها في طفولتها، ومن ناحية اجتماعية فكرها ليس له نضوج، وأؤيد سن ال18 على الأقل لزواجها".
وأوضح أن تعطيل المجلس التشريعي "عطل اقتراحاتنا لتغيير قانون الأحوال الشخصية وتوحيده والحد من زواج القاصرات (زواج الأطفال)"، مشدداً على ضرورة تطبيق قانون الخلع بصفة عامة لكافة الحالات، خصوصاً للمعلقات.
وأضاف: "للأسف وجدنا من خلال آلاف القضايا إلي اليوم الكثير من العائلات نادمة على تزويج بناتهم وهن صغيرات".
قانون الخلع .. لمن؟؟
وحاورنا هنية كريزم محامية مكلفة بالقضايا الشرعية في مركز الأبحاث والاستشارات الشرعية والقانونية، التي نبهت إلى أن سن الزواج ينص على اشتراط الأهلية في النكاح ويكون الخاطب ثماني عشرة سنة فأكثر والمخطوبة سبع عشرة سنة فأكثر.
وقالت كريزم : "لا يجوز لأحد تزويج الصغير ولم يتم الثانية عشرة من عمره ولا الصغيرة التي لم تتم التاسعة من عمرها، وما يطبق في المحاكم الشرعية الآن القرار الإداري رقم (78) لسنة 1955، والذي نص على الحد الأدنى للزواج، وهو خمسة عشر عاماً للفتاة وستة عشر عاماً للفتي بالسنة الهجرية، ولا يأذن القاضي بزواج من لم يبلغ هذا السن".
ولا تُؤيد المحامية كريزم الزواج القائم "على طفولة بريئة" وتتساءل كيف لطفلة احتواء طفل آخر؟ موضحة أن أغلب المشاكل تتكشف أثناء الخطوبة ويتم فسخ العقد فتصبح الفتاة مطلقة في سن مبكرة مما يؤثر على حياتها، ومستقبلها سلباً".
وبخصوص قانون الخلع قالت: " قانون الخلع يطبق للمخطوبة التي لم يتم الدخول بها، ويعطيها القانون التنازل عن حقوقها".
وتشير: "أغلب المشاكل من طرف الأهالي، ولو فصل الأبناء عن الأهل ستصبح هناك نسبة وتناسب لحياة أفضل وزواج ناجح".
القضاء .. خفايا وأسرار
لكن ثمة من يري بأن هناك فرق بين مصطلحي (زواج مبكر وتبكير في الزواج) ومنهم د. حسن الجوجو رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي ورئيس المحكمة الشرعية العليا، الذي قالَ: "الزواج المبكر هو عبارة عن زواج من لم يتجاوز سن البلوغ بالنسبة للجنسين، ويكون بالشكل العام أو الحيض للفتاة أو أيهما أقرب وبالأغلب نعتمد على السن من خلال علامات وفوارق، فمن الصعب ضبط القاعدة".
ويوضح: "نحن نتستر على حالات معينة في الحالات الاستثنائية، كحالات اغتصاب وغيره على سن ال14 وأقل".
أما قضية التبكير في الزواج فهي وفق د. الجوجو أن "يُقدْم الأهل على تزويج الفتاة قبل نضوجها العقلي والعاطفي". فهذه قضية فوارق فردية وصعب ضبطها وعمل اختبار قبول ليبين مدي أهليتها للزواج، بالفهم المتقدم بالأعباء الزوجية".
وأضاف: "الولاية نوعين للشخص، منها درجتي البلوغ العمري والرشد المالي في حق الصغير تنتهي ببلوغه"، موضحاً أن القاضي عادةً ما يبين بنود عقد الزواج للفتاة والشاب، والأهل هم من يتكفلون بالأمر، "وليس باستطاعتنا تغيير ما في أنفسهم وإنما نحاول في مُنحنى القانون مساعدتهم"، حسب قوله.
وجانب آخر من المشكلة كما يكشفه لنا د. الجوجو أن بعض الأهالي يسارعوا إلى تزويج الفتاة وكأنهم سيرتاحون من "عبأ الفتاة"، فيرفضوا توضيح الشيخ لبنود ومعلومات عقد الزواج.
وهناك قاعدة ذهبية مُعتمد عليها في القضاء تقول -والكلام للجوجو- : "لابد لكل واحدٍ من الخاطبين أن يكون على علم قاطع أو ظن راجح بحالةِ طرف الآخر".
وذكر أن إحصاءات نسبة الطلاق في قطاع غزة، من عام 2000 حتى 2010م لا تتجاوز 15%، ولكن في عام 2010م ارتفعت نسبة الطلاق بالشكل العام لتقارب ما نسبته ما 17.08%، ولعام 2011م قاربت نسبته 17.01% من نسبة طلاق لزواج، ولكن الطلاق أنواع فهناك الطلاق الرجعي والذي كان على أكثر من 600 رجعة، تم منها 200حالة، فما يتم خصمه من الطلاق الرجعي نعود لنسبة 15% وهي النسبة الحقيقة طلاق لزواج.
وهناك شروط مرفقة بالعقد من قبل كلا الطرفين، فما يرغبان بوضعه يُكتب حرفياً لضمان حقوقهما، ولكن بشرط ألا يتنافي مع مقاصد الزواج، ولا يضرُ بالغير، وألا يتنافي مع القانون، ويبقي هنا دور المؤسسات لتعزيز ثقافة الزواج وتعزيز استقلالية الشخصية الايجابية في اختيار شريك الحياة.
ومن جانب آخر، تحدث الجوجو عن قانون الخُلع وأعطي رداً لكل من يقول نحن بحاجة لقانون الخُلع، فقال: "نحن سنفعل قانون الخُلع، ولكن لحالات منها الخُلع المتفق عليه بين زوجين خارج المحكمة ويتم داخلها، وحالات سيُناقش فيها".
ويوضح: "قانون (97) يجدر للمرأة المتضررة ضرراً مادياً أو معنوياً أن ترفعُ أمرها للقضاء فيطلقها القاضي مع الاحتفاظ بالحقوق".
لكنه يري أن المفهوم الخاطئ عن الخلع يؤدي إلي "المفسدة في المجتمعات العربية، فالخُلع أصبح سلاحاً مدمراً للعائلات، فنحن نساعد الزوجات المتضررات ونأمل توسيع قاعدة التفريق بالضرر، ويشمل كل أنواع الضرر بما فيه ضرر عقم الزوج وفق د. الجوجو.
حلول ومقترحات
بناء أسرة قائمة على أسس متينة يعد مكسباً للمجتمع في الأساس، لذا يستوجب ضرورة التحرك لمواجهة المشكلات التي تعترض هذا البناء.
ومن الآراء المهمة والتي طرحها رئيس المجلس الأعلى للقضاء، تزويج كافة الفتيات فيما بعد سن الثامنة عشر عاماً، وأيضاً عما قريب وبعد المصالحة الوطنية سيتم العمل على المقترح المُدرج منذ سنوات برئاسة الرئيس الراحل ياسر عرفات، على توحيد قانون الأحوال الشخصية في الدستور الفلسطيني بين شطري الوطن (الضفة وغزة)، حيث سيشمل على "أصالة القوانين القديمة ومعاصرة الجيل الجديد ومستحدثات العلم والتطور".
وثمة دعوة وجهها اختصاصيون وباحثون لإجراء تغيير جذري في قانون الأحوال الشخصية للحد من التزويج المبكر مع ضرورة توعية النساء والفتيات خاصة بهذا الأمر، وما يترتب عليه وهي مسؤولية مشتركة لا يمكن أن يُعفي أحد منها.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
من لم يكن طعامه من فأسه .... لم يكن قراره من رأسه © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger
Top